تقاتلونهم أو يسلمون

تقاتلونهم أو يسلمون

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ، ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓ

(وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِايَٰتِهِٓ إِنَّهُ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُون) [الأنعام: 21]

.. قمَّةُ الظلم.. الافتراءُ على الله تعالى، من خلال تحريف الكلم عن مواضعه في تناول كتاب الله تعالى، وإنكار الحقائق التي تحملها نصوص كتاب الله تعالى، وفرض الأكاذيب والأهواء عليها، انتصاراً لهبوط القيمة الإنسانيّة في نفوس الظالمين، وللنتن المذهبي والطائفي الذي يتيهون في أنفاقه..

.. وضحايا هذا الظلم كثر.. ونتيجته غمس المجتمعات في مستنقعات الحقد والكره واحتكار الخلاص وتكفير الآخرين والاقتتال الديني والمذهبي والطائفي والفكري، إضافة إلى إعراض بعض الناس عن منهج الله تعالى، وربّما إلحادهم ،كونهم لم يستطيعوا تخيّل الإله جلّ وعلا ظالماً يأمر بإكراه الناس وقتلهم وسبي نسائهم، كما هو للأسف في فقهنا الموروث، افتراءً على منهج الله تعالى..

.. سبب هذا البحث هو رسالة من أخ عزيز بعثها لي، مفادها أنَّ صديقاً له كان من حفظة القرءان الكريم والملتزمين، لكنَّ نفسه لم تنسجم مع ما رآه في الموروث محسوباً على منهج الله تعالى، كتكفير للآخرين، وسبي لنسائهم، وكتفاسير موروثة لأمور علمية فلكيّة لا تحمل لكتاب الله تعالى إلاَّ الإساءة.. فما كان منه إلاّ أن ألحد، وأصبح داعية للإلحاد حتى على الفضائيّات..

.. الأمور التي استوقفته هو ومن سار على هذا الدرب، كثيرة.. لكن.. ما أبلغني عنه الأخ العزيز هو وقوف صديقه عند قوله تعالى: (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ) في الآية الكريمة..
(قُل لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 16]

.. قرأ التفاسير وسمعها من شيوخه وحسبها ذات مراد الله تعالى.. ومحور ما تذهب إليه هذه التفاسير، هو أنَّ العبارة: (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ)، تعني: تقاتلونهم حتى يسلموا.. بمعنى: يجب مقاتلة كلّ من لم يُسلِم، حتى يُسلِم..

.. فقد ورد في تفسير الطبري بما يخصّ هذه العبارة القرءانيّة:

[[وقوله (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) يقول تعالى ذكره للمخلَّفين من الأعراب تقاتلون هؤلاء الذين تُدعون إلى قتالهم، أو يسلمون من غير حرب ولا قتال..

وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءات (تُقَاتِلُونَهُمْ أوْ يُسْلِمُوا)…….]]

.. وورد في تفسير ابن كثير:

[[وقوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} يعني: يشرع لكم جهادهم وقتالهم، فلا يزال ذلك مستمراً عليهم، ولكم النصرة عليهم، أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار..]]

.. وورد في تفسير الألوسي:

[[وقوله تعالى: {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} على معنى يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، فأو للتنويع والحصر لا للشك وهو كثير]]

.. وورد في تفسير فتح القدير:

[[{تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام لا ثالث لهما، وهذا حكم الكفّار الذين لا تؤخذ منهم الجزية . قال الزجاج: التقدير: أو هم يسلمون، وفي قراءة أبيّ (أو يسلموا) أي: حتى يسلموا]]

.. وورد في تفسير زاد المسير:

[[وقال بعض أهل العِلْم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إِلاّ في العرب، لقوله: {تُقاتِلونهم أو يُسْلِمُونَ}، وفارس والروم إِنما يقاتَلون حتى يُسْلِموا أو يؤدُّوا الجزية]]

.. وورد في تفسير الرازي:

[[{تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} إشارة إلى أن أحدهما يقع، وقرئ {أَوْ يسلموا} بالنصب بإضمار أن على معنى تقاتلونهم إلى أن يسلموا]]

.. وورد في نظم الدرر للبقاعي:

[[قال تعالى: {تقاتلونهم} أي بأمر إمامكم {أو يسلمون} أي يدعوكم إليهم ليكون أحد الأمرين المظهرين لأن كلمة الله هي العليا: المقاتلة منكم أو الإسلام منهم، فإن لم يسلموا كان القتال لا غير، وإن أسلموا لم يكن قتال]]

.. وورد في بحر العلوم للسمرقندي:

[[{تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} قرأ بعضهم (أَوْ يُسْلِمُوا) بألف من غير نون، وقراءة العامة بالنون . فمن قرأ: {أَوْ} يعني: حتى يسلموا، أو إلى أن يسلموا . ومن قرأ: بالنون . فمعناه: تقاتلونهم أو هم يسلمون .]]

.. وورد في تفسير البيضاوي:

[[{تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإِسلام لا غير كما دل عليه قراءة « أو يسلموا »، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم أو يعطي الجزية .]]

.. وورد في تفسير النسفي:

[[{تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام . ومعنى يسلمون على هذا التأويل ينقادون لأن فارس مجوس تقبل منهم الجزية]]

.. وورد في تفسير أبي السعود:

[[{تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي يكون أحدُ الأمرينِ إما المقاتلة أبداً أو الإسلام لا غير، كما يفصح عنه قراءة أو يسلمُوا . وأما من عداهُم فينتهي قتالهم بالجزية كما ينتهِي بالإسلام .]]

.. وورد في التحرير والتنوير:

[[{تقاتلونهم أو يسلمون} يشعر بأن القتال لا يرفع عنهم إلا إذا أسلموا، وإنما يكون هذا حُكماً في قتال مشركي العرب إذ لا تقبل منهم الجزية .]]

.. وورد في تفسير القطان:

[[ستُدعون إلى قتال قوم ذوي شدة وبأس في الحرب، فعليكم أن تخيّروهم بين أمرين، إما القتل أو الإسلام]]

.. وورد في المحرِّر الوجيز:

[[وقال منذر بن سعيد: رفع الله في هذه الجزية، وليس إلا القتال أو الإسلام، وهذا لا يوجد إلا في أهل الردة .]]

.. وورد في تفسير السعدي:

[[{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: إما هذا وإما هذا، وهذا هو الأمر الواقع، فإنهم في حال قتالهم ومقاتلتهم لأولئك الأقوام، إذ كانت شدتهم وبأسهم معهم، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية، بل إما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه، فلما أثخنهم المسلمون، وضعفوا وذلوا، ذهب بأسهم، فصاروا إما أن يسلموا، وإما أن يبذلوا الجزية]]

.. وورد في أيسر التفاسير لأسعد حومد:

[[وَإِنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُخَيِّروهُمْ بَيْنَ أَمْرَين: إِمَّا السَّيفُ وَإِمَّا الإِسْلاَمُ – وهذا حَكْمٌ عَامٌّ في مُشْرِكي العَرَبِ وَالمُرْتَدِّين]]

.. هذه عيّنة من التفاسير الموروثة وما سار على دربها.. وقد أتيت بها ليرى القارئ أنَّ هذا الافتراء على منهج الله تعالى، عليه إجماع، فالغرق في مستنقع تحريف الكلم عن مواضعه، لم ينج منه إلاَّ ما رحم الله تعالى..

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡ) [آل عمران: 144]

.. ونرى أنَّ هذه التفاسير بجملتها، تذهب إلى ما يحمله الحديث التالي، الذي تمّ افتراؤه على الرسول عليه السلام..

البخاري (24)حسب ترقيم العالميّة:

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ

البخاري (379)حسب ترقيم العالميّة:

حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْعَبْدِ وَمَالَهُ فَقَالَ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ

مسلم (31)حسب ترقيم العالميّة:

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ عَنْ الْعَلَاءِ ح و حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ

.. من الواضح لمن يملك حدَّاً أدنى من الإدراك، ويأبى أن يطلّق عقله وفطرته النقيّة، أنَّ هذه التفاسير وهذه الروايات، تتناقض مع مجمل ما جاء به كتاب الله تعالى، كالآيات الكريمة:

(لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ) [البقرة: 256]

(أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ) [يونس: 99]

(وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ) [الكهف: 29]

.. هذه التناقضات.. تؤدِّي في المجتمعات التي تتبنّاها فكراً وفقهاً، إلى فرزٍ في أفرادها بين ثلاثة أصناف:

1– هناك صنف يعي أنَّ العقل الذي وهبه الله تعالى للإنسان، وميَّزه به عن غيره من المخلوقات، وأنَّ الفطرة النقيّة التي فطره الله تعالى عليها، لا يمكن أن يتعارضا مع ما أنزله الله تعالى.. وبالتالي يدرك أنَّ هذه التفاسير وهذه الروايات مكذوبة من أساسها.. ولا يزيده ظلام الآخرين إلاّ نوراً وتمسّكاً بالحق، فلا يطلِّق عقله، ولا ينكر كتاب الله تعالى، ما ينكره هو هذه المهازل التي لبِّست على كتاب الله تعالى والسنّة الشريفة..

2– هناك صنف انطلت عليه أكاذيب المشايخ وأسلافهم، بأنَّ هذه التفاسير تنطق بما يريده الله تعالى وما تحمله آيات كتابه الكريم، وأنَّ هذه الروايات صحيحة قالها عليه السلام.. وهؤلاء الذين لا يستطيعون تطليق عقولهم وفقدان الشفافيّة والرحمة من نفوسهم، من هذا الصنف، ولم يدركوا حقيقة كذب هذه الروايات وما عكسته على تفسير آيات كتاب الله تعالى، يدفعهم هذا إلى الإلحاد والكفر بكتاب الله تعالى، انطلاقاً من يقينهم أنَّ الإله العظيم ربّ العالمين لا يمكن أن تكون هذه صفاته وأحكامه..

3– هناك صنف طلَّق عقله، وفقد الروح والشفافيّة والفطرة النقيّة، فانسجمت هذه التفاسير الموروثة وهذه الروايات المكذوبة مع هوى نفسه وظلامها، فتعامى عن الدلالات الحقّ لكتاب الله تعالى، وتنكَّر للمنطق وللفطرة النقيّة، وراح يغوص في مستنقعات الظلام التي تحملها هذه الروايات وما انعكس عنها في تفاسيرنا الموروثة، مكفِّراً الآخرين، ومنغمساً في دياجير ظلام الموروث..

.. العبارة القرءانيّة (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ) [الفتح: 16] ، في الآية الكريمة التالية، هي نموذج ممّا تمَّ فيه تحريف الكلم عن مواضعه، انتصاراً لثنائيّة هوى النفس من جهة والروايات المكذوبة من جهة أخرى..

(قُل لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 16]

.. هذه الآية الكريمة كما نرى تبدأ بكلمة (قُل).. وهي أمر من الله تعالى لرسوله عليه السلام، ومن بعده لكلِّ حامل لمنهج الله تعالى.. وهذا القول الذي يأمر الله تعالى رسوله عليه السلام (ومن بعده كلّ حامل لمنهج الله تعالى) بقوله، موجَّهٌ لصنفٍ مُحدَّدٍ من البشر دون غيرهم: (لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ)..

.. وعبارة المخلَّفين من الأعراب بهذه الصيغة، ترد في كتاب الله تعالى مرَّتين، هما في السورة ذاتها، في هذه العبارة التي هي قيد البحث، وفي السياق السابق لها ببضع آيات كريمة.. فما بين الآية (11) والآية (16) في سورة الفتح، نرى بياناً في مسألة المُخَلَّفين من الأعراب..

(سَيَقُولُ لَكَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ شَغَلَتۡنَآ أَمۡوَٰلُنَا وَأَهۡلُونَا فَٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔا إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ ضَرًّا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ نَفۡعَۢا بَلۡ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرَۢا ١١ بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰٓ أَهۡلِيهِمۡ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورًا ١٢ وَمَن لَّمۡ يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ سَعِيرًا ١٣ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ١٤ سَيَقُولُ ٱلۡمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقۡتُمۡ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأۡخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعۡكُمۡ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمۡ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبۡلُ فَسَيَقُولُونَ بَلۡ تَحۡسُدُونَنَا بَلۡ كَانُواْ لَا يَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ١٥  قُل لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 11 – 16]

.. كلمة (ٱلۡأَعۡرَابِ) في كتاب الله تعالى تعني الذين لم يؤمنوا (بالمفهوم القرءاني للإيمان) من المسلمين العارفين بلغة كتاب الله تعالى.. لذلك.. كونهم مسلمين ومطَّلعين على كتاب الله تعالى، ولغتهم هي اللغة التي نزل بها كتاب الله تعالى، فإنَّ إعراضهم عن الخضوع لحقيقة ما يحمل كتاب الله تعالى من دلالات، يجعلهم أكثر الناس كفراً ونفاقاً..

.. وانتماء (ٱلۡأَعۡرَابِ) إلى ساحة الإسلام (الخضوع الظاهر)، لا ينفي كونهم أشدّ الناس على وجه الأرض كفراً ونفاقاً، وذلك كونهم مطَّلعين على كتاب الله تعالى ويعرفون لغته….. فجحودهم بدلالات كتاب الله تعالى هو عن معرفة..

(ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرًا وَنِفَاقًا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ) [التوبة: 97] = 457

(قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡ‍ًٔا إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ) [الحجرات: 14] = 664

457 + 664 = 1121 = 19 × 59

.. عبارة (ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ) تصف جزءاً من الأعراب، خُلِّفوا لدرجة وُصفوا بها بصفة (ٱلۡمُخَلَّفُونَ) التي تعني: (المجعولون في الخلف).. فهؤلاء نتيجة بخلهم، وحبِّهم للدنيا، ونفاقهم، وعدم إيمانهم (كونهم من الأعراب)، جُعلوا في الخلف متأخِّرين عمَّا يجب أن يكونوا..

.. هؤلاء: (ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ).. هم ذاتهم من يصفهم الله تعالى بقوله: (يَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡ)..وهم ذاتهم من يصفهم الله تعالى بقوله: (بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰٓ أَهۡلِيهِمۡ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورًا).. وهم ذاتهم من يصفهم الله تعالى بقوله: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِ).. وهم ذاتهم من يصفهم الله تعالى بقوله: (قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمۡ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبۡلُ).. وهم ذاتهم من يصفهم الله تعالى بقوله: (بَلۡ كَانُواْ لَا يَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا)..

.. والسؤال الآن.. هل يعقل أنَّ هؤلاء الموصفين بهذه الصفات، يكلِّفهم الله تعالى بمقاتلة الناس، ليتَّبعهم الناس، فيدخل هؤلاء الناس – على أيديهم – في منهج الله تعالى؟!!!!!!!.. هل يعقل ذلك؟!!!!!!!.. كيف إذاً يعتبرون – في التفسير الموروث – هؤلاء المخلَّفين من الأعراب الموصوفين بهذه الصفات، رسلَ الله تعالى الذين يعطيهم صلاحيّة قتل الناس إن لم يسلموا؟!!!!!!!..

.. وبماذا يأمر الله تعالى حامل منهجه، في قوله لهؤلاء المُخلَّفين من الأعراب؟.. يأمره بأن يقول لهم: (سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا).. فالكلمة الأولى هي (سَتُدۡعَوۡنَ)، ونراها مبدوءة بحرف السين الذي يفيد الزمن المستقبل بالنسبة لتلقِّيهم هذا القول، وذلك كحكمٍ مجرَّدٍ له إسقاطاته النسبيّة في كلِّ زمانٍ ومكان.. ونرى أنَّ كلمة (سَتُدۡعَوۡنَ)، بصيغة المبني للمجهول.. فلم يُبيِّن لنا النصُّ القرءاني مَن يدعو هؤلاء المخلَّفين من الأعراب.. هم سيُدْعَون.. لكن من قِبَل مَن، لم يُبيِّن كتاب الله تعالى في ظاهر صياغته اللغويّة، ومعرفة ذلك تحتاج لقراءة ما بين الحروف في السياق المحيط، كما سنرى إن شاء الله تعالى..

.. وهؤلاء المخلَّفون من الأعراب، سيُدعَون: (إِلَىٰ قَوۡمٍ)، صفتهم: (أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ).. وهذه العبارة: (أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ)، ترد – إضافة للآية قيد البحث – مرَّتين في كتاب الله تعالى، مرَّة بصيغة الرفع، حيث يصف البشر أنفسهم بهذه الصفة..

(قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأۡمُرِينَ) [النمل: 33]

.. ومرَّة (بصيغة مطابقة للصيغة الواردة في الآية الكريمة قيد البحث)، كصفة يصف الله تعالى بها عباداً من عباده..

(فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعۡدًا مَّفۡعُولًا) [الإسراء: 5]

.. فهل الذين بعثهم الله تعالى على بني إسرائيل، لوضع حدٍّ لإفسادهم الأوَّل، قبل الإسلام، وقبل المسيحيّة، ووصفهم الله تعالى بالصفة: (أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ)، هل هم ذاتهم، ستكون دعوة المخلَّفين من الأعراب إليهم بعد مجيء الإسلام: (قُل لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ)، وذلك كإسقاط أكبر لدلالات الآية الكريمة قيد البحث؟..

.. إذاً.. المُخلَّفون من الأعراب بعد مجيء الإسلام، وفي الزمن المستقبل بالنسبة لنزول القرءان الكريم وهذه الآية فيه، سيُدعَون (إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ).. فإلى ماذا سيُدعَون إلى هؤلاء القوم؟..

.. المفسِّرون – كما رأينا – قالوا: من أجل أن يُقاتلوا هؤلاء القوم لإرغامهم على الإسلام، بمعنى يستمرّ القتال معهم حتى يُسلموا.. بمعنى: يطلب الله تعالى من المخلَّفين من الأعراب مقاتلة هؤلاء القوم حتى يسلموا.. وهذا المذهب من التفسير (والذي أدى إلى ارتداد بعضهم كما بيَّنا في بداية البحث) ليس صحيحاً على الإطلاق، وذلك من عدّة وجوه، كلُّ واحدٍ منها يكفي لنقض التفسير الموروث من أساسه:

1– موضوع إكراه الآخرين على دخول الإسلام وتخييرهم بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، هو كذب وافتراء باطل، ينقضه كتاب الله تعالى من أساسه جملةً وتفصيلاً، وقد بيّنت ذلك في كتبي وبرامجي.. وهناك بحث خاص في ذلك على موقعي، بعنوان: أكذوبة الجزية..

2– هؤلاء: (ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ)… الذين يصفهم الله تعالى بقوله: (يَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡ)..وبقوله: (بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰٓ أَهۡلِيهِمۡ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورًا).. وبقوله: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِ).. وكذلك بقوله: (قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمۡ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبۡلُ).. وكذلك بقوله: (بَلۡ كَانُواْ لَا يَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا).. هل هؤلاء المنافقون الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والذين حكم الله تعالى عليهم بأنَّهم لن يتَّبعوا المؤمنين، هل هم من يكلِّفهم الله تعالى بحمل رسالته وقتل الآخرين للدخول بها، في الوقت الذي يريدون به تبديل كلام الله تعالى ولا يفقهون إلاّ قليلا؟!!!!!!!.. هل يُوجَد عاقل يمكن لفطرته النقيّة أن تستسيغ هذا الافتراء على منهج الله تعالى؟..

3– الأهم من السببين السابقين، هو أنَّ صياغة العبارة القرءانيّة: (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ)، لا تسعف التفسير الموروث فيما يذهب إليه.. إطلاقاً.. ولذلك رأينا كيف أنَّ بعضهم، راح يحرِّف دلالات كلام الله تعالى، بالضبط كما يصفهم الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِ)، فيزعم أنَّه هناك من يقرأ كلمة: (يُسۡلِمُونَ)، على أنَّها: (يُسْلِمُوا)، جاعلاً المعنى: (إلى أن يُسلموا)..وذلك بإضمار (أن)، بمعنى: تقاتلونهم إلى أن يسلموا..

.. لو كان كلامهم صحيحاً أنَّ دعوة هؤلاء المخلَّفين من الأعراب إلى القوم أولي البأس الشديد من أجل أن يقاتلوا هؤلاء القوم أو أن يسلم هؤلاء القوم، لكانت العبارة القرءانيّة (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ) بالشكل: (لتقاتلوهم أو يسلموا).. فإضافة العبارة (من أجل أن) تقتضي النصب، وبالتالي تقتضي الصيغة: (لتقاتلوهم أو يسلموا).. لكن هذا الذي فرضوه على كتاب الله تعالى، تنقضه الصياغة (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ)..

.. هذا التيه الذي دخلوا فيه، جعلهم يعربون هذه العبارة (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ) صفة لكلمة (قَوۡمٍ).. وهنا تبلغ المهزلة ذروتها.. وحتى لو سلّمنا لهم بما يريدونه، فالمخلَّفون من الأعراب (حسب تفسيرهم المغلوط) هم دُعوا إلى قتال القوم، وليس الأمر أنهم دُعوا إلى قوم موصوفين بالمقاتلة أو الإسلام.. فمن يحرِّف الكلم عن مواضعه، سيغرق بمثل هذه المستنقعات، كون أهوائه الضالّة من المستحيل أن تتقاطع مع أحكام كتاب الله تعالى التي كلُّها عدلٌ وحق..

.. كيف يأتون بأن المضمرة لتخدم أهواءهم في تحريف الكلم عن مواضعه، وهم يرون بأمِّ أعينهم أنَّ العبارة القرءانيّة ليست بالشكل: (لتقاتلوهم أو يسلموا) إنّما هي: (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ).. كيف؟!!!!!!!.. السبب هو أنَّ هذا التحريف للكلم عن مواضعه: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِ) يخدم أهواءهم، وينسجم مع رواياتهم التي وُضعت أصلاً لخدمة ذات الأهواء عند السابقين..

.. الحقيقة التي مُنعوا من رؤيتها بسبب عبادتهم لأصنام التاريخ، هي أنَّ الدعوة التي سيُدعى إليها المُخلَّفون من الأعراب، ليست لتخيير هؤلاء القوم بين القتال أو الإسلام، إنّما هي دعوة للوقوف معهم في خندقٍ واحد، في قضية تُفرَض على الطرفين في أن يواجهوا عدواً مشتركاً.. فالدافع هو عدو مشترك، ينال من هؤلاء المخلَّفين من الأعراب، ومن القوم أولي بأس شديد، مما يتوجَّب وقوف هذين الطرفين في مواجهة ذلك العدو المشترك..

.. فالذي يدعو المخلَّفين من الأعراب، ليس مَن يحمل منهج الله تعالى فقط، وليس القوم أولي بأس شديد فقط، وليس العدو المشترك لهؤلاء المخلَّفين من الأعراب وللقوم أولي بأس شديد بعدوانه عليهما وعلى مقدَّساتهما فقط.. ما يدعوهم هو كلُّ هذه الأمور مجتمعة، بما تنتجه من ظروف يتوجَّب عليهم بها الوقوف مع هؤلاء القوم أولي بأس شديد في مواجهة هذا العدو المشترك.. لذلك رأينا كيف أنَّ كلمة (سَتُدۡعَوۡنَ) تأتي بصيغة المبني للمجهول..

.. لكن.. هؤلاء المخلَّفون من الأعراب، وأثناء دعوتهم إلى القوم أولي بأس شديد للوقوف معهم أمام عدوٍّ مُشترك، يكونون في حالة اقتتال مع القوم أولي بأس شديد ومحاولة لإخضاعهم.. من هنا نرى أنَّ الجملة (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ) هي حال هؤلاء المخلَّفين من الأعراب مع أولئك القوم أولي بأس شديد، حين يُدعون للذهاب إليهم، للوقوف معهم في وجه عدوٍّ مشترك……. ففي حال كونهم (مع هؤلاء القوم) في حالة اشتباك وقتال ومحاولة للإخضاع (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ)، يُدعون إلى هؤلاء القوم أولي بأس شديد ليقفوا معهم ضد عدوٍّ مشترك: (سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ)..

.. إذاً.. الجملة: (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ) ليست صفة للقوم أولي بأس شديد كما زعموا.. إنَّما هي حال للواقع بين المخلَّفين من الأعراب والقوم أولي البأس الشديد، حينما يضطرهم عدوٌّ مشترك للوقوف في خندقٍ واحد أمامه: (سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ).. بمعنى: والمخلَّفون من الأعراب في حالة اشتباك وقتال وتناحر بهدف إخضاع القوم أولي بأس شديد، وهم في هذا الحال من ذروة اشتباكهم مع القوم أولي بأس شديد (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ)، يُدعون (نتيجة اعتداء عدو مشترك لهم ولهؤلاء القوم أولي بأس شديد) إلى الوقوف مع هؤلاء القوم في خندقٍ واحد ضدَّ هذا العدو المشترك (سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ)..

.. ولمَّا كان هذا العدو المشترك يهدف إلى النيل من المقدَّسات المشتركة بين المخلَّفين من الأعراب والقوم أولي بأس شديد، وهي مقدَّسات لا بدَّ من الدفاع عنها انتصاراً لمنهج الله تعالى، فإنَّ طاعة هؤلاء المخلَّفين من الأعراب للدعوة في الوقوف مع القوم أولي بأس شديد في خندقٍ واحد، يجعلهم يحصلون من الله تعالى على أجرٍ حسن.. وبالمقابل فإنَّ التولّي عن هذه الدعوة والاستمرار في غيِّهم وحالهم التي هم عليها، يجعلهم ينالون من الله تعالى عذاباً أليماً..

(فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا)

.. إذاً.. العبارة القرءانيّة: (تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ)، لا تعني تكليفاً من الله تعالى للمنافقين الذين يريدون تبديل كلام الله تعالى، والذين حكم الله تعالى بأنَّهم لن يتَّبعوا المؤمنين، بأن يشنّوا حروباً ظالمة على الناس لفرض الإسلام عليهم بالقوّة، ذلك الإسلام  الذي لم يؤمن به أصلاً هؤلاء المخلَّفون من الأعراب..

.. وكلُّ ما يترتَّب على افتراءات الموروث من إساءة لكتاب الله تعالى عبر تحريف الكلم عن مواضعه، ومن إساءة لعقائد الناس، ومن ارتداد لبعضهم، يتحمَّل مسؤوليته المتاجرون بهذا الموروث، الذين يذرّون الرماد في أعين الناس، لإيهامهم أنَّ هذه الموروث هو ذات مراد الله تعالى..

.. وهذا لا يعني إعفاء المرتدّين من المسؤوليّة، كونهم كان باستطاعتهم البحث عن الحقيقة خارج مستنقع هذا الموروث، فالحياة في أساسها امتحانٌ من الله تعالى، وسعي وبحث عن الحقيقة..

مشاركه فى